الأحد، 31 مارس 2013

محمد الأشهب: الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة في ظل الربيع العربي هو احتفاء بالمواطنة


.يكشف هذا الاستجواب مع محمد عبد السلام الأشهب تصوره للفلسفة ودروها ودرسها في المغرب الراهن، بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة في سياق زمني آخر هو زمن الربيع العربي. هو باحث في الفلسفة المعاصرة  وأستاذ الفلسفة بجامعة بن زهر- أكادير، صدر له كتاب تحت عنوان "الفلسفة والسياسة عند هابرماس: جدل الحداثة والمشروعية والتواصل في فضاء الديمقراطية". كما صدر له، مؤخرا، عمل يحمل عنوان " أخلاقيات المناقشة ". 
ماذا يعني لكم الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة؟

الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة هو احتفال بالعقل وبالقيم الإنسانية التي ناضل الفلاسفة من أجل تكريسها في الواقع اليومي، ومن أهم هذه القيم التي على أساسها قررت منظمة اليونسكو الاحتفال بهذا اليوم نذكر قيمة التسامح التي احتلت دائما حيزا مهما في الخطاب الفلسفي سواء الحديث أو المعاصر. الاحتفال اليوم في ظل ما يسمى بالربيع العربي هو احتفال بثقافة الاعتراف بالآخر وتضمنه بدل احتوائه وإقصائه، هو احتفال بثقافة المواطنة والموطن الجديد الذي يؤمن بمصيره بيده بدل ثقافة الخضوع والخنوع للراعي الذي يدعي المسؤولية عن رعيته إلى أجل غير مسمى. الاحتفال اليوم أيضا يجب أن يكون احتفالا بثقافة الحق في العدالة والمشاركة الفعالة والكرامة والإنصاف. إنها مناسبة للاحتفال بميلاد الإنسان العربي الجديد الذي سيتذكره التاريخ، الأمر يتعلق بالربيع العربي الذي قرر القطع مع الاستبداد والتسلط  والطغيان بكل أشكاله وتحرير الفضاء العمومي من هيمنة الأنظمة السياسية الفاسدة التي لطالما تعاملت مع المواطن باعتباره رعية لازال يحتاج إلى الوصاية على ماله وأفكاره وقراراته، أي أنه مجرد احتياط انتخابي تزين به واجهة الديمقراطية المزيفة لإضفاء الشرعية على أنظمة لاشرعية لها.
وبالمناسبة، شاركت مؤخرا في ندوة دولية بتونس من تنظيم كرسي اليونسكو الذي يترأسه الباحث التونسي الجاد فتحي التريكي وكانت محاور الندوة تتعلق بالهوية الثقافية وحقوق الإنسان والتعددية الثقافية... وقد لاحظت أن المواطن التونسي تحرر بصفة نهائية في خطابه من لغة الخوف وأصبح يعبر بطريقة حرة وبجرأة غير معهودة في زمن الاستبداد أثناء حكم الهارب بن علي. فقد أصبح عاديا في تونس أن ترى كتبا تتحدث عن بن علي الفاسق والمستبد. إن القطع مع ثقافة الخوف هو المدخل الوحيد لتحرير الإنسان. وبالمناسبة ذاتها، أشير إلى أن المشروع الذي يرعاه كرسي اليونسكو بتونس بإشراف فتحي تريكي خصص العديد من لقاءاته لتعزيز فكرة التسامح والحوار بين الثقافات والتعددية الثقافية والعبر الثقافية. لكن بالمغرب لازال الاحتفال بهذا اليوم لا يرقى إلى المستوى المطلوب للمكانة التي يحتلها الفكر الفلسفي بوطننا وذلك راجع لغياب جمعيات قوية تهتم بالشأن الفلسفي.
هل يمكن الحديث عن تراجع الخطاب الفلسفي في المغرب؟
الحديث عن تراجع يفترض أنه كان هناك تقدما من قبل والحال أنه يصعب الحديث عن فلسفة بالمغرب بصفتها تقليدا يجعلنا نتحدث عن فلسفة مغربية كما هو الأمر في الفلسفة الألمانية أو الفرنسية والإنجليزية. في مثل هذه التقاليد الكبرى والعريقة في التفكير الفلسفي نتحدث عن ظهور نظريات واختفاء أخرى وعن سجالات فلسفية كبرى بين رواد مختلف هذه النظريات. كما تجد تقاليد فلسفية عريقة بهذه الجامعة أو تلك. ومن منطلق متابعة التحولات التي يمكن أن يعرفها الخطاب الفلسفي بين فترة وأخرى يمكنك أن تقارن لتجزم القول بالتراجع أو التقدم. والسبب في غياب هذه التقاليد هو غياب مأسسة البحث الفلسفي في أفق خلق مشاريع فلسفية قد يواصل فيها الجيل اللاحق ما أنجزه الجيل السابق. صحيح أن الجابري رحمه الله أسس مشروعا فلسفيا مهما ينطلق فيه من التراث العربي الإسلامي الذي مارس عليه منهجا نقديا جعل النقاد يعتبرون المرحوم كانط العرب، لكن قل لي هل هناك من سيواصل المهمة الفلسفية التي شرع فيها المرحوم. أعتقد أن الأمر صعب التحقيق في غياب جيل من الفلاسفة الشباب الذين تكونوا في المدرسة الجابرية. في المقابل، أعطيك مثالا، خذ مثلا النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت التي تأسست سنة 1923 بجامعة فرانكفورت وبحكم اشتغالها بمنطق المؤسسة الفلسفية التي قامت على فكرة مأسسة البحث الفلسفي في إطار مشاريع بحثية كبرى تمكنت من الصمود والاستمرارية إلى يومنا هذا بحيث إن تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر يتحدث عن أجيال داخل النظرية النقدية. الجيل الأول مع هوركهايمر، أدورنو، ماكوزه، وإريتش فروم، والجيل الثاني مع هابرماس، والجيل الثالث لازال يواصل الطريق مع أكسيل هونث و كلاوس هوف والبرت فيلمر... وهو الجيل الذي لازال يشتغل بنفس منطق الجيل الأول في ما يتعلق بالمشاريع البحثية الكبرى. وهذا لابد أن يساهم في تطوير التقليد الفلسفي المتعلق بالنظرية النقدية عموما التي أصبح الحديث عنها يتم بصيغة الجمع. ونفس الأمر ينطبق على الفلسفة التأويلية والنظرية النسقية في العلوم الاجتماعية مع نيكلاس لومان... أعتقد حينما نصل إلى مثل هذه التقاليد آنذاك يمكننا الحديث عن تراجع وتقدم. بل والأكثر من ذلك ففكرة التقدم والتراجع في الفلسفة والفكر عموما فيها نظر. المهم بالنسبة لي بعد وفاة المرحوم الذي يعد رمزا للفلسفة المغربية إلى جانب كل من المفكر عبد الله العروي وطه عبد الرحمان يمكن القول إن الفلسفة بالمغرب ستؤسس لمرحلة ما بعد الجابري من حيث القضايا التي تتناولها، وهذا عمل نلمسه لدى الباحثين الشباب اليوم في الفلسفة التي لم تعد منشغلة فقط بقضايا التراث في علاقته بالحداثة، بل الأكثر من ذلك هذا الأمر بدأنا نلمسه حتى عند بعض الباحثين الذين كرسوا جزءا كبيرا من أبحاثهم للفلسفة الإسلامية وقضايا التراث. فالأستاذ المصباحي على سبيل المثال أصبح يكتب كتبا في غاية الأهمية حول فلسفة الحق والفلسفة الانثبولوجية والحداثة السياسية والأخلاقية انطلاقا من مساءلته لنصوص فلاسفة كبار مثل هابرماس وليواستروس وأمارتيا صن. وكتابه الأخير الصادر عن دار الطليعة تحت عنوان "من أجل حداثة متعددة الأصوات" خير دليل على ما أقول.
خلاصة القول إن الفلسفة في المغرب يمكن لها أن تساير القضايا التي يدور حولها النقاش الفلسفي وهذا من شانه أن يعطينا أعلاما جددا يقدمون أجوبة عن أسئلة المرحلة التي تختلف عن أسئلة الجيل السابق.
باعتباركم تزاولون مهمة تدريس الفلسفة بالجامعة، كيف تقيمون أفق التفكير الفلسفي؟
كما تعلم فلم ألتحق بالجامعة إلا مؤخرا. لكن متابعتي لما يجري في الحقل الفلسفي تسمح لي بالقول إن تدريس الفلسفة قد تطور كميا بشكل مهم، إذ فتحت العديد من الشعب لمادة الفلسفة بالعديد من الجامعات المغربية وقد صاحب هذا الإصلاح ظهور العديد من مسالك للفلسفة في سلك الإجازة ووحدات للماستر والدكتوراه. والملاحظ أن العديد من هذه المسالك والوحدات البحثية بدأت تنحو منحى الاهتمام بقضايا الفلسفية العملية أكثر من الاهتمام بالقضايا الميتافزيقية أو حتى الاهتمام بالفلسفة الإسلامية لم يعد هو المسيطر في الجامعة كما كان عليه الأمر حينما كانت الفلسفة متمركزة بفاس والرباط، وهذا مؤشر على المسار الجديد الذي بدأ يسلكه الباحثون الجدد في المجال الفلسفي، فأصبح الاهتمام منصبا على الفلسفة السياسية وفلسفة الدين والحق والأخلاق والفلسفة التأويلية وقضايا التواصل والحوار، وهذا طبعا يتماشى مع التحولات التي يعرفها الفكر الفلسفي العالمي الذي أعاد الاعتبار لهذه القضايا العملية التي هي أقرب لانتظارات الإنسان المعاصر لمواجهة التحديات التي تواجهه. والفلسفة اليوم إذا لم تنخرط في ما يمس الإنسان بشكل مباشر لن يكون لها صدى في المجتمع الذي تسيطر عليه النظرة التقنقراطية التي تختزل كل شيء في عمليات حسابية وتقنية ضيقة.
صدرت مؤخرا مذكرة وزارية تحت اسم " المواد المتآخية" أو المتقاربة، بحيث يسمح بموجب هذه المذكرة إسناد تدريس الفلسفة لتخصصات من خارج الفلسفة، أي يمكن لحامل دبلوم في أصول الدين، التربية الإسلامية، القانون أو اللغة العربية... أن يقوم بمهمة تدريس الفلسفة بالثانوي التأهيلي. هل هذا الفعل ممكن فلسفيا؟
بحكم تجربتي كمدرس لمادة الفلسفة بالتعليم الثانوي لمدة تزيد عن عقد من الزمن، والتي أفتخر بها، لأنني استفدت منها الشيء الكثير في كيفية تحويل ونقل الأفكار الفلسفية المعقدة لتلاميذ لا يعرفون حتى كلمة الفلسفة، بل أكثر من ذلك يحملون تصورات عدائية للفلسفة، أكاد أقول إن من أصعب المواد للتدريس في التعليم الثانوي هي مادة الفلسفة. بل، وبحكم تجربتي السابقة بالتعليم الخصوصي، أيضا، كنت دائما أسمع من مديري المؤسسات الخصوصية أن اختيارهم لمدرس الفلسفة للتلاميذ بمؤسساتهم يؤرقهم أكثر من اختيار الأساتذة الآخرين. فأنا أجزم بأنه يستحيل لمدير مدرسة خصوصية أن يسند تدريس هذه المادة لغير المتخصص فيها، الذي هو الأستاذ الذي يمارس داخل القسم. لكن استهتار المسؤولين بالتعليم العمومي عودنا على مثل هذه القرارات الارتجالية. فإذا كان ذلك باسم الخصاص، فأنا أقول إنه يمكن حذف المادة من الجذع المشترك مرحليا، بدل هذا القرار البليد الذي يسند مادة من أصعب المواد إلى غير أهلها، اللهم إذا كانت النية المبيتة هي ضرب مصداقية الفلسفة لدى التلميذ من الأساس. إن مثل هذا القرار لا يمكن لعاقل أن يقبله.
تزامن اليوم العالمي للفلسفة مع حدث شهده المغرب، الأمر يتعلق بالانتخابات التشريعية، ألا ترى أن المشهد السياسي في حاجة إلى الفلسفة السياسية كخطاب يغني ممارسة الفعل السياسي؟
الزعيم السياسي نفسه لا يعرف الفلسفة السياسية، وحتى المثقف الذي يمكن أن يزوده بذلك وينظر داخل الحزب السياسي ويسمع صوته لا وجود له. وحتى إن وجد بعض المثقفين الفلاسفة فوجودهم مرتبط بانتظار دورهم في الاستوزار. لقد كان المرحوم  الجابري يدعو دائما إلى وضع المسافة بين المثقف الفيلسوف والسلطة، وقد ظل متشبثا برأيه دون أن يعرف طريقا لوزارة الثقافة، التي كان بإمكانه أن يتقلدها. لكن، في ظل الأمية التي يتمتع بها الزعيم السياسي في الفلسفة السياسية، لا يمكن لخطاب الفلسفة السياسية أن يعرف طريقه إلى الحقل السياسي. فمن مظاهر الأزمة التي يعرفها الخطاب السياسي غياب تصور فلسفي ينطلق منه السياسي.
كيف يمكن للفلسفة أن تنخرط في الشأن العمومي؟
إن اهتمامات الفلسفة اليوم بالمباحث العملية المتمثلة في الفلسفة السياسية والأخلاقية والثقافية والحوار والتواصل يمكن لها أن تساهم في مناقشة الشأن العام بدون مركب نقص. أعطيك مثالا: الفيلسوف يورغن هابرماس في ألمانيا يعد مستشارا للسياسيين بطريقة غير مباشرة، لأنه يتدخل بصفة دائمة في مناقشة القضايا العمومية، وهو يعتبر نفسه كمثقف من الواجب عليه مناقشة هذه القضايا، عملا  بفكرة كانت الداعية إلى التمييز بين الاستعمال العمومي والخصوصي للعقل. وهابرماس إلى جانب كتاباته الفلسفية الأكاديمية، التي تعدت الأربعين كتابا، ينشر بصفة دائمة سلسلة كتابات سياسية kleine politische Schriften هي حصيلة تدخل الفيلسوف في قضايا الشأن العام، التي ليست حكرا على السياسي أو عالم السياسة. و القارئ لفلسفة هابرماس يلمس العمق الفلسفي لهذه المداخلات أكثر من القارئ العادي.
نلاحظ،، حاليا، أن موجة من الشباب الأكاديمي وضع الاهتمام الفلسفي بين مفترق الطرق، بين الفلسفة القارية والفلسفة الأنجلوسكسونية. ماذا يعني انفتاحكم على القارة الأنجلوسكسونية؟
الاهتمام بالفكر الأنجلوسكسوني والألماني ولم لا الإسباني والإيطالي والأسيوي هو الذي من شأنه أن يساهم في تطوير الخطاب الفلسفي بالمغرب، وليس الارتكان إلى رؤية فرنسية أحادية، والتحرر من هذه المرجعية أعتبره مدخلا من مداخل الاستقلال الفلسفي، على غرار الاستقلال السياسي. وقد سبق لي أن قلت في حوار آخر بضرورة فك الارتباط مع المرجعية الفرنكفونية، لأنها عائق أمام الإبداع الفلسفي بالنسبة إلينا نحن المغاربة. المرجعية الفرنسية الأحادية خطر على الفكر الفلسفي المغربي في زمن التنوع الفلسفي وتداخل الثقافات. والأكثر من ذلك، فالتقليد الفلسفي الفرنسي فقد بريقه مع رحيل الفلاسفة الكبار، أمثال فوكو و دريدا ودولوز وسارتر. وأسماء مثل هنري برنار ليفي فيلسوف الصهيونية علامة على انحطاط الخطاب الفلسفي الفرنسي المعاصر. وأمام هذه الوضعية، لا يسعنا سوى أن  نقول بصوت مرتفع إن التفلسف يمكن أن يجد منطلقاته في مرجعيات وتقاليد أخرى، على رأسها التقليدين الألماني والأنجلوسكسوني الواعدين.
فما هو المأمول الفلسفي في المغرب اليوم؟
المطلوب اليوم من الباحثين في الفلسفة بالمغرب الاهتمام بالبحث عما يجمعنا بثقافة الآخرين، وتمتين العلاقات بالباحثين الأجانب من مختلف المشارب الثقافية، لإبراز القضايا التي تشتغل عليها الفلسفة في بلدنا، وذلك قصد إبراز الشخصية المغربية. فبالرغم من أن الحديث عن فلسفة مغربية بالمعنى الكامل للكلمة سابق لأوانه، إلا أن هناك مجهودات تبذل بالمغرب وتجد صدى لها، خاصة في المشرق العربي. كما أن المأمول أيضا من الفلاسفة الشباب حاليا في وطننا هو الاهتمام بالقضايا التي لها راهنية وارتباط بالشأن العام، على اعتبار أن هذا الشأن لا يجب أن يترك للسياسي والتكنوقراطي وحده، بل المقاربة الفلسفية يجب أن تحضر. لقد ولى زمن الفيلسوف الذي يتأمل في القضايا الميتافزيقية والترنسدنتالية البعيدة عن الواقع اليومي للناس. إننا في حاجة إلى فلسفة اليومي، وذلك لمحاربة الفكر السطحي الذي تساهم فيه وسائل الإعلام المختلفة المشارب. الفلسفة، وبحكم ارتباطها بالمجالات المعرفية الأخرى، خاصة العلوم الإنسانية، لديها من الوسائل ما يجعلها تكون في واجهة الأحداث. فالفيلسوف اليوم ليس مجرد منتج للأفكار داخل أسوار الجامعة، كما قال فيلسوف الفضاء العمومي يورغن هابرماس، بل الفيلسوف هو فاعل باستمرار في هذا الفضاء العمومي من خلال تدخلاته الدائمة بناء على رؤية فلسفية وليس استجابة لنداء السياسي. ولهذا، لايجب أن يفهم من كلامي أن تتحول مهمة الفيلسوف إلى صحافي يومي، بل الخلفية الفلسفية التي ينطلق منها الفيلسوف هي التي تجعل خطابه متميزا عن خطابات السياسي والصحافي وعالم السياسة. فالتزام الفيلسوف بقضايا الساعة أمر أصبحت له أهميته اليوم قبل أي وقت مضى.
استجوبه: عزيز الهلالي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق