الثلاثاء، 2 أبريل 2013

قراءة في " خطابات الحداثة " لماريا كاريلو


 بقلم :محمد عبد السلام الأشهب        
يعد سؤال الحداثة من الأسئلة الفلسفية التي لها راهنيتها في الخطاب الفلسفي المعاصر، هذا الخطاب الفلسفي الذي انقسم حوله الفلاسفة بين مؤيد له على اعتبار أن الحداثة خطاب لازالت له مشروعيته في الوقت الراهن، أو بلغة هابر ماس " الحداثة مشروع غير مكتمل "؛ وبين مناهض لهذا الخطاب الأنواري والذي يمثله تيار ما بعد الحداثة، نذكرمن ممثليه نيتشه وهيدغر. ولإغناء الحقل الفلسفي في العالم العربي، اختار الباحثان المغربيان عز الدين الخطابي وإدريس كثير ترجمة إحدى أهم الأعمال الفلسفية في الفلسفة المعاصرة في هذا المجال، " خطابات الحداثة " من توقيع الفيلسوف البرتغالي ماريا كاريلو. 


        
كما أن اختيارهما لهذا العمل يندرج في إطار اهتماماتهما الفلسفية والديداكتيكية فالدكتور عز الدين الخطابي بحكم ممارسته لتدريس الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة بمدينة مكناس انفتح على مجال ديداكتيك الفلسفة لإغناء الساحة الفكرية بالمغرب التي تفتقد لهذا النوع من الكتابات، كما أن الأستاذ إدريس كثير بحكم ارتباطه بوظيفة تدريس الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي، يحمل بدوره هذا الهاجس لتطوير الدرس الفلسفي بالمغرب. 

        
فكتاب ماريا كاريلو الذي نقدمه هنا يعكس هذا الاهتمام لأنه توقف فيه عند قضايا ديداكتيكية استنادا إلى خلفية فلسفية عميقة، مثل الأشكلة Problématisation، المحاجة Argumentation.
بالإضافة إلى هذا الجانب الديداكتيكي، فالحضور الفلسفي هو الأقوى في هذا العمل، فهو يعكس وبشكل واضح نقاشات الفلسفة المعاصرة المنقسمة على نفسها حول سؤال الحداثة. أما بالنسبة للباحثين، فهذا السؤال بدوره يعد من إحدى اهتماماتهما الفلسفية. فالأستاذ عز الدين الخطابي سبق له أن نشر كتابا تحت عنوان " الحداثة والتقليد بالمجتمع المغربي "(1)، أما الباحث إدريس كثير فهو بدوره سبق أن نشر عملا تحت عنوان " الإسرار الفلسفي " والذي توقف فيه عند الخطابات الفلسفية العربية التي تناولت سؤال الحداثة مثل : محمد عابد الجابري، محمد أريكون، عبد الله العروي، والشليلي. في ضوء هذه الانشغالات يتبين لنا أن اختيار ترجمة هذا الكتاب هو اختيار فلسفي، بحكم الإشكالات الفلسفية التي يتضمنها هذا العمل. ولتقريب القارئ العربي من هذا العمل نقدم هذه الورقة عسى أن تكون مساهمة محفزة للاقتراب أكثر من صلب إشكالاته. 
1.    خطابات الحداثة " جغرافية فلسفية "
 
         إن العنوان الأصلي للكتاب هو " Rethorique de la modernité " فلمـاذا اختيار ترجمته " بخطابات الحداثة " عوض " خطابة الحداثة " ؟

         من خلال إطلاعي على الكتاب تبين لي أن اختيار هذا العنوان للترجمة العربية كان اختيارا موفقا إلى حد كبير، لأن الكتاب يستعرض وبأسلوب فلسفي إشكالي عميق تقاليد فلسفية عريقة تصاهرت فيما بينها لتؤسس لتفكر فلسفي في دولة البرتغال التي ينحدر منها ماريا كاريلو. لقد أظهر هذا الفيلسوف في عمله، قدرة كبيرة على تحليل مختلف التقاليد الفلسفية لخلق سجال فلسفي غني بين هذه التقاليد. ففيه نجد التقليد الفلسفي الألماني حاضرا في شخص الخطاب العقلاني التواصلي الحداثي مع فيلسوف الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت، يورغن هابر ماس Habermas، وأيضا كارل آتو آبل، ومانفرد فرانك. هؤلاء الذين لازالوا لحد الآن يدافعون عن مشروع الحداثة كمشروع له راهنيته بالرغم من النتائج السلبية التي نتجت عن الفكر الأنواري. فالمطلوب بالنسبة لهم هو نقد هذا الخطاب وإعادة بنائه، وتنقية هذا الخطاب من الانتقادات العنيفة التي وجهت له من طرف مناهضي الحداثة، وانتقاداتهم لخطاب الحداثة تبدو من خلال الانتقادات التي يوجهونها " للمظاهر السوسيو مرضية للمجتمع الحديث ". وفي سياق نفس التقليد نجد حضورا لفتجنشتاين هذا الأخير الذي ساهمت فلسفته في اللغة في إعطاء دفعة قوية للخطابين الفلسفي والسوسيولوجي المعاصرين، على اعتبار أن اهتمامه بالفلسفة التحليلية التي تجعل من اللغة موضوع تحليلها، جعل الخطاب الفلسفي المعاصر يهتم بهذا الفيلسوف إلى حد كبير. كما أن البحث السوسيولوجي بدوره، وبحكم اهتمامه بالتفاعل الاجتماعي وميكانزمات الاندماج الاجتماعي والتواصل في الفضاء العمومي وجد في القضايا اللغوية لفتجنشتاين منطلقا لتطوير آليات اشتغاله. 
إلى جانب هذا التقليد الجرماني، نجد حضورا مهما للتقليد الفرنكفوني متمثلا بالفلسفة الفرنسية والبلجيكية. فالفيلسوف جون فرنسوا ليوطار حاضرا في هذا الكتاب، وقد استحضر ماريا كاريلو الحوار الفلسفي بينه وبين هابر ماس بالاعتماد على القراءة الافتراضية التي قام بها مانفرد فرانك. فليوطار معروف بمناهضته لخطاب الحداثة ولفلسفة النسق، ( نكلاس لوهمان) والإجماع (هابر مـاس)، ووحدة الخطاب، وهذا التقليـد سيلتقي فيه مع زملائه الفرنسيين، فوكو، دولوز، دريدا، بطاي. 
أما بخصوص الفلسفة البلجيكية نجد حضورا لكل من بييرلمان، وميشيل مايير من خلال مقاربتيهما لموضوع الاستشكال الفلسفي والمحاجة الفلسفية وكيفية توظيف الحجاج الفلسفي في أفق بناء خطاب فلسفي حداثي عقلاني، فيمكن اعتبار اهتماماتهما أنها تدخل في ما يسمى ببلاغة الفلسفة. 
وعن التقليد الإنجلو سكسوني يستحضر ماريا كاريلو الفيلسوف الأمريكي رتشارد رورتي، ممثل البرجمانيةالجديد Neopragmatism حاليا بأمريكا، وكاريلو معجب في كتابه بأطروحة هذا الفيلسوف وخاصة فكرته حول " التأويل التضامني " لإدراك الحقيقة، إضافة إلى اشتغاله على فلاسفة أمريكيين آخرين مثل : بوتنام، دافد سون، كما خصص فصلا لفيلسوف العلم الكبير، طوماس كوهن صاحب أطروحة " بنية الثورات العلمية "(4) الذي يعد إنجازا فلسفيا رائعا في حقل " فلسفة العلم ".
إن جل هذه الخطابات الفلسفية التي تناولها ماريا كاريلو في كتابه، تعكس لنا جغرافية واسعة للفكر الفلسفي المعاصر بإشكالاته وطروحاته وأساليبه الحجاجية حول سؤال الحداثة الذي يعتبر القسام المشترك بين مختلف هذه الخطابات وإن اختلفت مقارباتهم لهذا الموضوع. 
كما أن الكتاب لم يقف عند حدود تناول المضامين الفلسفية لكل خطاب، وإنما خاض في إشكالية " الخاطبة " Rethorique، على اعتبار أن كل خطاب فلسفي من سقراط إلى الآن له بلاغته وكل أسلوب له آليات اشتغاله. فلكل خطاب فلسفي يجعل هدفا ضمنيا يتمثل في إقناع القارئ، فقراءة كتاب فلسفي هو حوار مع فيلسوف. وكتاب ماريا كاريلو في تناوله للخطابة كفن للإقناع كما يقول أرسطو، أراد أن يخوض في البنية الداخلية للخطاب الفلسفي، فالخطابة من حيث هي نظرية في بلاغة التفاوض والمحاججة هدفها هو إقناع المتلقي، لأن كل خطاب فلسفي يريد أن يفرض نفسه في سياق الخطابات المتواجدة. فكل خطاب له إستراتيجيته في السيطرة والهيمنة. 
إذن في ضوء رسم الكتاب لهذه الجغرافية للفكر الفلسفي المعاصر من خلال توقفه عند أهم التقاليد الفلسفية، وملامسته لبلاغة الخطاب، ارتأى المترجمان ترجمة الكتاب تحت عنوان " خطابات الحداثة " ما دامت الخطابة هنا لا تشكل سوى جزءا من الخطاب الفلسفي. 
هذه البلاغة التي تتأسس على الحجاج بالدرجة الأولى الهدف منها بناء خطاب فلسفي عقلاني يكون مدخلا لحداثة فلسفية واجتماعية وسياسية. فالتواصل الحقيقي في المجتمع الحداثي لا يتأسس سوى على أفضل حجة كما يقول هابرماس وليس على الإكراه والإرغام والسيطرة والعنف. فالعقلانية التي ينشدها هذا الفيلسوف بالاعتماد على زميله كارل آتو آيل Apel هي عقلانية تواصلية بديلة للعقلانية الأداتية. وما دامت العقلانية عنده مرتبطة بالحجاج فليس هناك عقلانية واحدة بل هناك عقلانيات لأن هناك أساليب مختلفة في الحجاج ولهذا عنون كاريلو إحدى فصول الكتاب "بعقلانيات " وآخر " بمحاججات ".
دون أن يفصل طبعا بين العقلانية والحجاج، أي أن العقلانية المطلوبة في وقتنا الراهن هي عقلانية تواصلية مؤسسة على النظرية الحجاجية. 

         وفي هذا الفصل المعنون ب " عقلانيات " تبني ماريا كاريلو فكرة تعددية الخطابات الفلسفية. ولهذا ففي مناقشته المطولة لمفهوم البراديغم Paradigme لطوماس كوهن نجده  يختلف معه بخصوص إمكانية تبني أي " أنموذج " في الحقل الفلسفي بحيث يكون جامعا بين الفلاسفة مثل البراديغم الإبستمولوجي الذي يجمع بين العلماء. يقول ماريا كاريلو في هذا السياق " إن النموذج العلمي قد منى الطموح الفلسفي، خصوصا في مجال الحداثة بالحصول على شكل أنموذجي، لكن مثل هذا الطموح أبان منذ الديكارتية والنزعة النقدية  إلى الوضعية المنطقية عن عدم قدرته على تجاوز مستوى المشروع أو البرنامج، كي يصبح تصورا فعليا مشتركا بين أعضاء الجماعة. وعلى هذا الأساس فإن استمالة إقامة نماذج فلسفية تنبع من كون " بروتوكولات " معالجة المشاكل ومعالجة حلولها هي نفسها عناصر للصراع بين الفلسفات "(188).
فالفلسفة كانت دوما على هذا النمط من الصراع السجالي، فلا يمكنها أن تركن إلى أنموذج متفق عليه، بل هي مخترقة بسلسلة من الاتجاهات والخطابات الفلسفية، بحيث أن كل خطاب فلسفي يؤسس عقلانية ما على أساس أسلوبه الحجاجي، ما دامت المحاججة مكونا رئيسيا لكل خطاب فلسفي إن لم نقل السمة المميزة له. 

         ولقد خلص في عمله هذا إلى أن العقلانية غير موجودة، فما يوجد هي أداءات العقلانية المنتظمة حول أبعاد مختلفة جميعها باختلاف المنظور الذي تم إبرازه، ومن خلال هذه الخلاصة التي تركز على تعددية العقلانية في ارتباطها بالحجاج، يتبين لنا في فصل " محاجات " مبرر إقرار تولمين باختلاف أساليب الحجاج من حقل لآخر، ومن هنا كانت إستراتيجيته في إصلاح المنطق الأرسطي وجعله أكثر حرية من خلال دراسته للأشكـال المألوفة للحجاج ضمن أي حقل من الحقول، ففي حقل العلوم الطبيعية مثلا، لم يعمـل رجال مثل كيبلير، نيـوتن، لافوازييه، داروين، وفرويد على تحويل معتقـداتنا فحسب بل أيضا على تحويل طرق حججنا ونمـاذجنا، وفي التدقيق والتحقيق. (ص 75)
والأكثر من ذلك، فأساليب الحجاج عند تولمين تتسم بالتعددية ليس من حقل لآخر فقط، بل وحتى من ثقافة لأخرى، ولهذا أدخل توليمن السياق في علاقته بالحجاج. 
أهمية السياق في علاقته بالحجاج : يعتبر برلمان أن السياق ليس مستقلا بل هو مرتبط بالخصوص بالمستمع، ولهذا بالنسبة له يجب أن نمنحه دورا في العملية الحجاجية، فالسياق يعد عنصرا هاما فيما يتعلق بالاتفاقات القائمة بين وقائع وحقائق، في انتقاء وتأويل المعطيات، عملية الإقناع، الإبداع المجازي، تنويع الدلالة. إن كل هذه الاعتبارات الهامة للسياق عند بيرلمان تجعل دور المستمع يهيمن بقوة في أطروحة بيرلمان، مما يجعل من نظريته نظرية ذات منحى سياقي بشكل قوي جدا، ولهذا ليس من الغريب أن يؤكد في كتابه " رسالة في الحجاج "Traité de L’argumentation " بأن كل لغة هي لغة الجماعة سواء تعلق الأمر بجماعة متحدة بفعل الروابط الدموية أم باشتغال على مادة تخصصية أم على تقنية مشتركة، فالألفاظ المستعملة ومعناها وتحديدها، لا يمكن أن تفهم إلا ضمن السياق المقدم من طرف العادات وطرق التكلم والمناهج، والظروف الخارجية والتقاليد المعروفة لدى المستمعين.(89)
إن هذه الفكرة لها أهميتها في حياتنا اليومية، لأن أي حوار لكن يكون حوارا عقلانيا إذا لم يأخذ بعين الاعتبار هذا التنوع الثقافي، فإقناع الآخر المختلف عنا ثقافيا يقتضي فهم السياق الذي يوجد فيه، والذي نشأ فيه، والذي يحدد تصرفاته. في سياق نفس الإشكال المتعلق باستحضار المستمع دافع بيرلمان في كتابه " البلاغة والفلسفة" على أن المنظور البلاغي يسمح بفهم المهمة الفلسفية بذاتها بشكل أفضل، بتحديدها وفق عقلانية تتجاوز فكرة الحقيقة ما دام نداء العقل يفهم بمثابة خطاب موجه إلى مستمع كوني. (108)لكن هذه الكونية واللازمنية التي يتميز بها الخطاب الفلسفي عند الفلاسفة الكلاسيكيين تجعل فكرة المستمع الكوني حاضرة عندهم، لكن الإشكال المطروح هنا والذي يعتبر مأزقا اعترف به بيرلمان نفسه هو بين وجهة نظر البلاغة الفلسفية التي تطمح إلى خطاب كوني موجه لمستمع كوني مؤسس على حجج وإدخاله للبعد السياقي للمستمع. (105)
وهذه في نظري إحدى التحديات التي يواجهها خطاب الحداثة نفسه، باعتباره خطابا كونيا، لكن كيفية ملاءمته لهذه الكونية مع السياقات المختلفة، ذلك هو رهان الفلسفة الآن في زمن العولمة.

هوامش 
*
مانويل ماريا كارلو" خطابات الحداثة" ترجمة عز الدين الخطابي وإدريس كثير. منشورات 
دار ما بعد الحداثة 2001
1-
عز الدين الخطابي " الحداثة والتقليد في المجتمع المغربي " منشورات عالم التربية 2001
2-
إدريس " الأسرار الفلسفي " دار توبقال .-2003.
3- Lyotard J : « la condition postmoderne » minut. 1979. 
4-
طوماس كوهن" بنيةالثورات العلمية " منشورات دار المعرفة. ترجمة شوقي جلال- 1992

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق