الأربعاء، 3 أبريل 2013

قراءة في كتاب “الفلسفة والسياسة عند هابرماس” للباحث محمد الأشهب



بقلم حميد باجو
صدر مؤخرا عن  منشورات ” دفاتر سياسية” التي يديرها الاستاذ عبد الله ساعف كتيبا عن المفكر الألماني يورغن هابرماس، تحت عنوان: “الفلسفة والسياسة عند هابرماس” من تأليف الباحث المغربي محمد الأشهب، يقع في حوالي 200 صفحة من الحجم الصغير.
أهمية الكتاب تأتي أولا
من كون أن  الباحث مطلع على اللغة الألمانية، وبالتالي هو قادر على الوصول إلى مصادر الفلسفة الألمانية في لغتها الأم،  بدون المرور عبر الترجمة من الفرنسية أو الانجليزية كما هي العادة عند جل المفكرين المغاربة أو العرب. ثانيا، أنه بهذا العمل سيكون  محمد الأشهب من بين القلائل الذين ساهموا  في إطلاع  القارئ المغربي على فكر هذا الفيلسوف الكبير. فحسب علمنا، لم يهتم  لحد الآن  بهذا المفكر من قبله، سوى أساتذة قلائل جدا،  كنور الين أفاية في كتابه ” في الحداثة والتواصل: في النظرية النقدية المعاصرة نموذج هابرماس”،أ وعز الدين الخطابي في كتابه: “هايدجروالنازية: التأويل الفلسفي والالتزام السياسي”، أو محمد سبيلا في مجموعة من المقالات المترجمة حول موضوع الفلسفة النقدية.
   يتكون الكتيب من مقدمة وأربعة فصول.
في المقدمة التي كتبها عبد الله ساعف، يشير هذا الأخير إلى أهمية هابرماس كفيلسوف مركزي تميز إنتاجه من جهة، بالغنى والتنوع والانطلاق من مرجعية فلسفية قوية، ومن جهة أخرى بمواكبة الأسئلة المعقدة للإنسان المعاصر. فهو الفيلسوف الذي عمل على ربط انتاجه الفكري بمواقفه السياسية والاجتماعية محاولا بذلك إعطاء نموذج آخر للمواقف السياسية غير الاتجاه البراغماتي الذي أصبح يغلب على العديد من السياسيين والمثقفين.
ثم يخصص الباحث الفصل الأول إلى موقع نظرية التواصل في المشروع الفلسفي لهابرماس، حيث يشير إلى أن البداية بالنسبة لهذا الأخير، كانت في توجيه سهامه النقدية إلى الفلاسفة الذين يناهضون مشروع الحداثة والعقل الأنواري، بدءا من هايدجر ثم نيتشه وديريدا  وليوطار … وهو ينطلق في ابحاثه من سؤال طرح على الصيغة الكانطية: كيف يكون الإندماج الاجتماعي ممكنا؟ وبهذا يحدد لنفسه هدفا في أن يسعى لبناء نظرية في المجتمع وليس فقط  نظرية في المعرفة. ويكون الموضوع الرئيسي الذي يشتغل عليه هو مفهوم التواصل، أو ما انتهى إلى صياغته في أشهر النظريات التي عرف بها، وهي نظرية الفعل التواصلي.
ولتحقيق هذا الغرض، فهو يوجه نقدا في البداية لفلسفة الوعي، أي لمجمل تلك النظريات التي تجعل أساس الفعل الاجتماعي في ذات  ووعي الفرد المأخوذ بشكل معزول. وهو تقليد دأب عليه كل الفلاسفة منذ أرسطو وإلى بداية القرن العشرين. فبالنسبة لهابرماس، أن أساس كل فعل إنما يوجد في الوعي المشترك أو المتقاسم بين الأفراد أو ما يسميه بالبينذاتية. وهو يبحث عما يدعم به طرحه هذا في النظرية السوسيولوجية للفعل كما بدأت عند دوركهايم وميد وماكس فيبر وغيرهم من السوسيولوجيين اللاحقين.
يميز هابرماس بين نوعين من الفعل الاجتماعي: الفعل الأداتي  الغائي أو الفعل الاستراتيجي، الذي يهدف منه صاحبه إلى تحقيق غاية أو مصلحة محددة، والفعل التواصلي الذي ليس له غاية  أخرى، غير تحقيق التفاهم بين الشخصين أو الأشخاص المتحاورين. وعلى عكس الفعل الأول الذي قد يسعى إلى التأثير على الطرف الآخر، فإن التفاهم لا يمكن أن يقوم إلا على ضوء اتفاق مؤسس بشكل عقلاني، أي بدون ممارسة أي إكراه أو إغراء على الطرف الآخر. ولكي يتم  الفعل التواصلي   فذلك  يشترط  بالضرورة وجود عدة فاعلين مندمجين اجتماعيا فيما بينهم عبر  اللغة أو الثقافة أ والعالم  المعيش. مع الأخذ بعين الاعتبار ما يسميه بدعاوي الصلاحية الثلاث:  صدق القضايا موضوع التفاهم، وجدية المتكلم وصحة المعايير المقترحة. هذا بالإضافة إلى وضوح اللغة التي يتم بها التداول.
لكن الحديث عن التفاهم  عند هابرماس، ليس في الحقيقة سوى مدخل  للحديث عن الاجماع الذي هو الغاية القصوى من تصوره الفلسفي العام لمشروع الحداثة. وهو يسعى هنا لإعادة الاعتبار لهذا المفهوم الذي  قامت فلسفة الاختلاف  بالتنكر له وإقصائه. وهو  هنا إذ يطابقه بالحقيقة، يعرفه بأنه مجرد نتاج لمواقف وممارسات متفاوض ومتفق عليها. فالحقيقة بالنسبة إليه ليست تتويجا لتأمل منعزل كما تذهب إلى ذلك مختلف الفلسفات الميتافيزيقية. وهي لا توجد قبليا وإنما تنبعث من داخل المحادثات التي تتم بين الأشخاص المتحاورين أنفسهم. أو بعبارة أخرى أن الحقيقة ليست أكثر مما يتفق عليه هؤلاء الأشخاص في ظروف مثالية للتحاور. غير أن هذه النظرية قد تعرضت كثيرا للنقد،ومن ذلك ما ذهب إليه فالنر، الذي أشار أنه للوصول إلى الصدق، هناك على الأقل نظريتان أخريتان إلى جانب الإجماع، هما نظرية المطابقة ونظرية الأنساق {أو الأنظمة}.وبالنسبة إليه، فالإجماع لا يمكن أبدا أن يتحقق، وبدلا عنه، هو يفضل النظرية الأخيرة التي تجعل الصدق يبرز أو يتحقق على مستوى أعلى وأعم  من  مجرد  حصيلة جمع فقط لأراء المتحاورين .  {وهذا ما تكشف عنه مثلا  نظرية الانبثاق،  التي طورها أصحاب مدرسة الواقعية البنائية}.(التشديد من عندنا)
غير أن أهم نقد وجه لفكرة الإجماع عند هابرماس، هو ما قام به فرانسوا ليوطار الذي اعتبر أن الاختلاف هو أقدر على الإبداع والابتكار من الإجماع، وأن هذا الأخير قد لا يكون في آخر المطاف سوى نوع من الإرهاب الفكري. بل وأنه ليس هناك أصلا  في رأيه، أي إجماع حول أية قضية، حتى في  ميدان العلوم الحقة،  والدليل على ذلك ما عرفته الفيزياء نفسها  من أزمة في أسسها خلال العقود الأخيرة. غير أن الباحث يشير هنا إلى  رأي مانفرد  فرانك في هذا الأخير وفي مدرسة الاختلاف ككل التي ينتمي إليها، أو ما  يسميه بالاتجاه الحيوي في الفلسفة، وهي التي  تعتبر أن الإجماع إنما يتحقق   بفضل مصدر خارجي عن العقل كما يذهب إلى ذلك  نيتشه مثلا، في فكرته عن إرادة القوة. وأمام التناقض بين الخطابين أعلاه، الخطاب الحربي أو التنازعي  لليوطار وخطاب الانسجاموالتجانس لهابرماس، يسعى فرانك إلى التوفيق بينهما بتوضيح أن {الاختلاف يقع حين يكون هناك باراديغمان مختلفان،  أما الإجماع فلا يمكن أن يتم إلا من داخل نفس الباراديغم}.
وهكذا إذا كان هابرماس يدافع عن مشروعية خطاب الحداثة وإمكانية تحقق الإجماع، فإن ليوطار يعتبر الحداثة متجاوزة ويرفض أي نوع من الخطابات ذات النزعة الكلية أو الحقيقة الكونية. لكنهما رغم ذلك يلتقيان حول نفس الفكرة التي ترفض أي منطلق كلي للحقيقة أو مشروعية قبلية. فبالنسبة لهابرماس مثلا، أن موضوعية قضية ما،  التي كانت تستند في الماضي إلى مطلق متعال، إنما يجب أن تقوم اليوم على البعد البينشخصي في تأويلات العالم بعيدا عن أية نزعة فردية أو ماضوية. غير أن الميزة الأساسية لهابرماس، هوأنه لا يكتفي بنقاش العقلانية على المستوى النظري، ولكنه يبحث لها عن تطبيقاتها في الفضاء العمومي، حين يطرح سؤال الديمقراطية، معتبرا هذه الأخيرة وسيلة لاقرار التواصل داخل المجتمع. وبعبارة أخرى أن لفلسفة هابرماس بعد سياسي واضح. ولأنه كما يؤكد ذلك ألان تورين، أن التوافق الذي يطمح  هذا الأخير للوصول إليه، لا يتوقف على ما هو شكلي فقط، أي المساطر والمؤسسات، وإنما يجب أن يشمل المضامين أيضا.{ غير أن فلاسفة الاختلاف، إذ لا يعيرون لهذا الأمر أية أهمية، فإنهم يفتحون بذلك الباب لكل الدعوات حتى الأكثر تطرفا منها، للتعبير عن نفسها باسم الحق في الاختلاف، ضاربين بذلك الديمقراطية في الصميم، وهي التي تشترط قبل كل شيء، القبول بحد أدنى من التوافق على شروط للتواصل والعيش المشترك}.
ما يؤِاخذ أيضا على هابرماس، أن نظريته هي يوتوبية أكثر ما هي نظرية قابلة للتحقيق،وأنه لم يوضح كفاية كيف يمكن إخضاعها للتطبيق. كذلك ينتقده لوهمان على هذا المستوى، بأن التواصل قد لا يقود بالضرورة دائما إلى الإجماع، ولكن أيضا إلى الاختلاف. وهو يفضل الحديث هنا عن الاستقرار الدينامي { أو اللاتوازن المتحرك الذي تميل إليه نظرية الأنظمة المعقدة المتكيفة}.
في الفصل الثاني من الكتاب، يقدم الباحث نصين مترجمين لهابرماس:
النص الأول يتعلق بموضوع الرأي العام وعلاقته بالقانون والديمقراطية. وفي إطاره يفترضوجود بعدين للرأي العام، الأول دعوي هدفه الترويج السياسي أو التجاري، والثاني نقدي يفترض فيه أن يعكس المواقف والسلوكات الواقعية للجمهور. وهذا البعد الأخير هو الذي بنت عليه المدرسة الليبرالية الكلاسيكية تصورها حول اعتبار الرأي العام  المصدر الأول للسلطة السياسية، وهو الذي يسمح للشعب بممارسة سيادته. لكن السؤال الذي يطرح هنا:  هل الرأي العام هو ما يتشكل من مناقشة عقلانية عامة بين مختلف التيارات الفكرية في المجتمع، أم هو فقط ما تعبر عنه مواقف الأحزاب السياسية المكونة للأغلبية البرلمانية؟
لكن الاتجاهات الوضعانية التي جاءت لاحقا، اختارت مقاربة مختلفة في الموضوع. فهي نفت حتى وجود رأي عام شامل، وأن كل ما هنالك هو مجموعة من الرؤى الفردية أو مطالب لهذه الفئة أو تلك من السكان تتغير بحسب كل ظرفية ومناسبة. وهذا ما جعل هذا الموضوع يبعد عن السياسة بمفهومها الكلاسيكي،  ويصبح من اختصاص علم الاجتماع أوعلم النفس الاجتماعي.
 في السنوات الأخيرة، ظهرت إلى الوجود أطروحة تركيبية للجمع بين المفهوم القديم للرأي العام الذي يستحضر  دور السلطة السياسية ومؤسساتها، وبين المقاربة البسيكوجتماعية التي بقيت  تسعى إلى تتبع  مواقف الفئات الاجتماعية بشكل ملموس أو ما يتجسد مثلا في آلية الاستطلاعات  .
النص الثاني يقدم فيه هابرماس ثلاثة نماذج نظرية  للديمقراطية. فهو إذ ينتقد كلا النموذجين: الليبرالي  والجمهوري، يطرح في مقابلهما نموذجه الخاص الذي يسميه بالنموذج  التشاوري.
ويمثل التصور حول دور العملية الديمقراطية، نقطة الخلاف الأساسية بين هذه النماذج. فوظيفة هذه الأخيرة مثلا في التصور الليبرالي، تقوم على تقديم المجتمع على الدولة،وبرمجة هذه الأخيرة فقط  لخدمة مصلحة المواطنين الأفراد، وجعلها كمجرد جهاز للإدارة العمومية في مقابل مجتمع  يتشكل كنسق للعلاقات بين الأفراد  على أساس ما يفرضه منطق السوق الرأسمالي.  بينما في التصور الجمهوري لا يمكن فصل الدولة عن المجتمع، وأن تشكلها إنما هو مجرد وجه من الوجوه المتعددة  لسيرورة التنشأة الاجتماعية ككل. ولهذا فإن السياسة حسب هذا التصور لا تعدو أن تكون مجرد سياق لتخليق العلاقات  بين المواطنين داخل هذه الدولة نفسها، باعتبارهم أصحاب حق  وأنهم أحرار ومتساوون فيما بينهم.
ويبرز الاختلاف أيضا في تصوريهما لمفهوم المواطن: ففي حين يتحدد وضع هذا الأخير  في التصور الليبرالي،  بالحقوق الذاتية أو السلبية التي يملكها في مواجهة الدولة، حيث تتأسس الشرعية على مدى قيام هذه الأخيرة بحماية هذه الحقوق، يأخذ ذلك  صبغة مدنية في التصور الجمهوري، بحيث أن حماية هذه الحقوق  تفترض  أولا  المشاركة الإيجابية للمواطن داخل الدولة و المجتمع .
وهابرماس إذ يتفق مع النموذج الجمهوري، حين يرفض اختزال العملية الديمقراطية في مجرد مساومات تتم حول مصالح خاصة ومتعارضة، كما يذهب إلى ذلك الليبراليون، فإنه لا يتفق في المقابل مع هذا النموذج لما يجعل التفاهم الذي يقوم داخل المجتمع، مجرد تفاهم أخلاقي ينتج عنه تبلور هوية جماعية مشتركة ومتفق عليها إراديا. وهو ما يذهب إليه جون راولز في نظريته حول العدالة. بل أن هابرماس يجعل أساس الهوية أو التفاهم، في التاريخ وفي التجارب المشتركة لأفراد الجماعة { أي أن له أساس نشوئي تكويني }. فهناك بالضرورة كلية بينذاتية سابقة على وعي ورغبات الأفراد، على أساسها تتأسس شرعية أو عدالة النظام السياسي القائم. غير أنه يضيف أن هذه الشرعية لا ترتبط فقط بما تتوصل إليه جماعة معينة وما تعتبره هي لوحدها عبر تفاهمها الخاص أنه كذلك، وإنما يجب أن يكون ذلك التفاهم  ذا طابع كوني ويدمج كل البشرية ، أو  أنه غير متناقض  مع مبادئ وقيم أخلاقية لها مجال للصلاحية أوسع من الجماعة مأخوذة بشكل منعزل.
وعلى هذا المستوى، يعطي هابرماس أهمية كبرى للفعل التواصلي الذي بواسطته تتشكل إرادة الجماعة. هذا التشكل الذي لا  يتم فقط عبر التفاهم الأخلاقي حول الهوية ،ولكن أيضا بالتشاور  والاتفاق العقلاني حول كيفية اقتسام المصالح بين الأفراد والجماعات.وهذا هو ما يسميه بنموذج الديمقراطية التشاورية التي تقوم على وسيطي  الأحزابوالفرق البرلمانية من جهة، وعلى المناقشة الحرة غير النظامية في إطار الفضاء العمومي أو المجتمع المدني من جهة ثانية.
وإذا كان الباحث محمد الأشهب، قد أورد في الفصل الثالث من كتيبه، حوارين  لهابرماس يصعب علينا هنا تلخيصهما،  بالنظر إلى تشعب وتعدد المواضيع التي تم التطرق إليها، فإنه في الفصل الرابع،  قدم لوحة قيمة حول الطريقة التي يمكن بها قراءة هابرماس،وذلك بعرضه لأهم السجالات التي دخل فيها هذا الأخير طوال تجربته الفكرية  مع مفكرين عديدين ومن مشارب مختلفة نقدم هنا بعض النماذج:
- في البداية يورد الباحث السجال الذي جمع هابرماس مع هايدجر،  والذي بفضله ذاع صيته لأول مرة. وفيه يحاول هذا الأخير التمييز بين هايدجر الفيلسوف وهايدجر المتواطئ مع النازية،  فينتقده حول الموقف السلبي الذي اتخذه من  الحداثة ومن عقل الأنوار.  وهوالموقف الذي مهد الطريق لظهور فلاسفة ما بعد الحداثة أو من يسميهم بالمحافظين الجدد.
- ثم يورد سجاله مع الوضعانية، ومع كل ما ارتبط بها من نزوعات امبريقية وبراغماتيةوعلموية وتقنوية.  مع التذكير أن الموقف من هذه الأخيرة قد مثل دائما صلب اهتمامات مدرسة فرانكفورت اليسارية النقدية التي يعتبر هابرماس المؤسس إلى جانب زميله أوتوآبل، للجيل الثاني من أعضائها.
و في الفقرة الثالثة يشير إلى  سجالاته مع الحركة الطلابية اليسارية في أواخر الستينات، والتي وإن كان يتفق معها حول ضرورة دمقرطة الجامعة واشراك الطلبة كفاعلين في تسييرها، إلا أنه قد نعتها في حينه بالنظر إلى ميولاتها الكليانية،  بأنها نوع من الفاشية اليسارية.
- في الفقرة الرابعة يتناول علاقة  هابرماس بالماركسية. فهو وإن كان قد ابتدأ ماركسيا كما هو حال جل أعضاء مدرسة فرانكفورت، إلا أنه صار يبتعد  تدريجيا عن هذه الأخيرة، وذلك منذ أن أخذ  يفكر في إعادة بناء المادية التاريخية على أساس باراديغم جديد هوالفعل التواصلي بدلا عن باراديغم الصراع الطبقي، {أو ما يمكن تسميته ألان  بالمادية النشوئية التكوينية}. وفي هذا الإطار صار يدعو  إلى الإهتمام أكثر بالبنى الفوقية وبدور اللغة والأخلاق والتواصل، عوض الإقتصار فقط على الإقتصاد   أو على ثنائية قوى الانتاج- علاقات الانتاج.
- في الفقرة الخامسة يشير إلى سجال هابرماس  مع غادامير مؤسس الهيرمنوطيقا الحديثة. فهو إذ كان يبحث عن منطلقات أخرى لنقد الوضعانية غير منطلقات مدرسة فرانكفورت، وجد في فلسفة اللغة التي طورتها هذه الأخيرة ضالته، وقد كان لذلك دور حاسم في توجيهه نحو بلورة نظريته حول الفعل التواصلي أو ما سمي أيضا بالعقلانية التواصلية. وهذا ما  عرف في المسيرة الفكرية لهابرماس  بالمنعطف اللغوي.
- في الفقرة السادسة يشير إلى علاقة هابرماس بعلم الاجتماع، وذلك بدءا بارتباطه بماركس وماكس فيبر كما هو التقليد عند مؤسسي مدرسة فرانكفورت، مرورا بقراءاته لأعمال دوركهايم وميد وبارسونز ولوهمان…، وصولا إلى التقاءه مع علم النفس التكويني لبياجي الذي هيأ له المفاتيح النظرية المناسبة  لصياغة  الباراديغم التواصلي وإعادة بناء المادية التاريخية في صيغتها النشوئية التكوينية.
وعبر مدخل سؤال الأخلاق، يبرز ارتباط هابرماس بالتقليد الكانطي . غير أن ما ينجزه  من تحول حاسم  في هذا المجال، هو حين يعمد،  وعلى عكس الفلاسفة الذين سبقوه، إلى   نقل أسس المعايير الأخلاقية من مبدأ الذاتية أ و حرية الذات الفردية إلى مبدأ البينذاتية، مستفيدا في ذلك من نظرية أخلاقيات المناقشة التي طورها زميله في مدرسة فرانكفورت أوتو آبل.
وفي مجال الفلسفة السياسية هناك إشارة إلى سجالات هابرماس مع جون راولز، خاصة في النقد الذي وجهه  إلى  نظرية العدالة لهذا الأخير، مركزا في ذلك  على أولوية فكرة البينذاتية في هذه النظرية.  و هابرماس كان قد  وجد نفسه، خاصة بعد القطيعة التي أحدثها مع الماركسية،  مضطرا للإستعانة بالفلسفة الأمريكية  وذلك بدءا من بداياتها  ألأولى عند  البراغماتيين كبيرس وديوي، وصولا إلى الفلسفة السياسية الحديثة عند راولز ودوركوين وميشلمان.  
وربما يكون السجال  الأكثر شهرة الذي عرف  به هابرماس، هو الذي جمعه مع فلاسفة مابعد الحداثة، كفوكو وليوطار وديريدا وباطاي وبودريار. فهو قد دافع بقوة على فكرة أن مشروع الحداثة لم يستنفذ بعد، وأن كل النقد الذي وجه إلى هذه الأخيرة إنما  قد تم بأدواتها هي  نفسها، أي بالاعتماد على النقد العقلي، وبالتالي فإن ما يقوم به هؤلاء الفلاسفة هو فقط لتصحيح مسار الحداثة وليس لرفضها أو نفيها مطلقا.
وفي نفس السياق السجالي الذي  جمعه مع هذه الجماعة من الفلاسفة مابعد الحداثيين الفرنسيين، تواجه أيضا وبحدة مع زملاءهم من نفس المدرسة في ألمانيا، مثل نولته وسترومر تلامذة هايدجر. هؤلاء الذين باسم الدفاع عن الحق في الاختلاف وعن الخصوصية الألمانية، حاولوا التهوين من شرور النازية واعتبار ذلك مجرد لحظة عابرة في تاريخ ألمانيا.  وقد كان موقف هابرماس أن دافع بقوة عن الهوية الأوروبية والهوية الكونية في مقابل الهوية الألمانية القومية.
وفي الأخير، أنه إذا كنا نحن   نقر بعجزنا عن الإحاطة في هذه المقالة،  بكل ما ورد من أفكار غزيرة في  كتيب محمد الاشهب، فما بالك بهذا الأخير الذي سعى ومن خلال هذا العمل الصغير،  إلى أن يعرفنا ويقدم لنا كل هذا الإنتاج الضخم لأحد أكبر الفلاسفة المعاصرين  والأكثر تأثيرا في عصرنا.
لهذا فلا شك أنه سيسجل لهذا الباحث، أنه كان من الأوائل الذي  سيساهم في إطلاع القراء  والمثقفين المغاربة على فكر هابرماس. وأهمية ذلك تأتي ليس فقط من وزن هذا الفيلسوف على الساحة الفكرية العالمية، ولكن بالخصوص أن ساحتنا الفكرية  قد أصبحت الآن، وذلك  منذ أن انهارت النظرية الماركسية، وباستثناء  حالة عبد الله العروي، مهيمنا عليها إما من طرف دعاة الاختلاف والتفكيك المتأثرين بمابعد الحداثيين الفرنسيين، أو من طرف دعاة الخصوصية والهوياتية المعارضين لفكرة الكونية. أي بالضبط أولاءك الذين كرس هابرماس كل حياته لمواجهتهم وفضحهم.
حميد باجو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق