تمهيد
كان المفكر المغربي و المتخصص
في الدراسات المستقبلية المهدي المنجرة يكرر دائما
في كتاباته و استجواباته بعد حرب الخليج الأولى أن العالم العربي لا يمكن أن يظل
على ما هو عليه بعد 20 سنة
. وأكد بأن غياب الحريات و اتساع هوة بين الفقراء و الأغنياء في
البلدان العربية بشهادة جميع التقارير الدولية سيجعل المنطقة قابلة للانفجار في
أية لحظة لأن الطبيعة تخشى الفراغ. صحيح أن المفكر المهدي المنجرة لم يتنبأ
بالثورة بالتاريخ الذي اندلعت فيه و لكن العوامل المساعدة لاندلاعها دفعته للقول
بإمكانية اندلاعها بعد عشرين سنة.و هو التاريخ نفسه الذي يفصل بين خرب الخليج
الأولى و بداية الثورة بع رمزها محمد البوعزيزي. فما هي عوامل اندلاع الثورة في
العالم العربي ؟ و ها هي أفاقها؟ و ها هي الدروس التي يمكن استخلاصها منها؟ وهل
يمكن اعتبار حركة 20فبراير
بالمغرب ثورة سلمية
- في
دواعي الثورة
-الاستبداد و غياب حقوق
الإنسان:
بحكم
أن معظم الدول العربية تملك سجلا سيئا في مجال حقوق الإنسان و ذلك راجع
إلى اغتصاب الأنظمة الحاكمة المستبدة للسلطة السياسية لسنين طويلة، إذ نكلت
بمعارضيها و أقصت كل الأصوات المخالفة لها من اللعبة الديمقراطية و فبركت الأحزاب
و الانتخابات كواجهة للديمقراطية المزعومة.و أمام انسداد الأفق و عزوف الأغلبية
الساحقة عن المشاركة في المهزلة التي تقدمها الأنظمة الحاكمة لم يبق أمام الشباب
الذي عزف عن الأحزاب دون العزوف عن السياسة سوى البديل الوحيد هو التغيير من خارج
المؤسسات عن طريق النزول إلى الشارع للتعبير عن مطالبه بطريقة مباشرة و دون
الاستناد إلى الوسائط الحزبية لأنها فقد شرعيتها لدى المواطن.إنها ثورة ليست فقط
ضد الأنظمة السياسية بل حتى ضد الأحزاب التي قبلت بالفتاة و تركت المطالبة بجوهر
العملية الديمقراطية المتمثل في المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار بشكل مستقل في
يد الفاعلين الحقيقيين الذين يحركون الحكومات من خلف الستار.
إن تمرد الشباب على هذه الأنظمة
في نظري هو تمرد من أجل استعادة المشروعية السياسية التي
اغتصبها هؤلاء الطغاة من أمثال الهارب بن علي و عصابة الطرابلسية، و
حسني مبارك، و القدافي و عصابة أبنائه،و بشار الأسد و الطائفة العلوية
الشيعية، و علي عبد الله صالح المدعوم من النظام السعودي المستبد والمتخلف الذي لا
زال يحكم الناس بعقلية القرون الوسطى و نظام حمد بن آل ثاني الذي رفض نقل
السلطة إلى الشعب و استنجد بالأب السعودي لحماية عرشه من غليان شعبي مطالب باقتسام
السلطة، هذا دون أن ننسى النظام الجزائري العسكري القابض على السلطة بيد من حديد و
النظام المغربي الذي يوجد بين الديمقراطية و الدكتاتورية خاصة في عهد محمد السادس
الذي حاول التخلص من تركت ماضي أبيه الأسود في مجال حقوق الإنسان و الديمقراطية.إن
هذه الأمثلة و غيرها التي لايسع المجال لذكرها تشترك في خاصية الاستبداد السياسي
الذي كانت له تبعات خطيرة في المجتمع بحيث أن مجمل الدول العربية تأتي في مؤخرة
الترتيب بالنسبة لتقارير التنمية البشرية التي تعدها الأمم المتحدة كل سنة.
إن الربيع العربي هو ثورة من
أجل الحرية و الكرامة الإنسانية المفقودة، ثورة من أجل إسقاط الفساد.فحالة المغرب
على سبيل الذكر الذي صنفه التقرير الأخير لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية في الصف 130 يعد أحد هذه الدول الفاسدة في مجال تدبير السياسات العمومية
و الذي يتجلى في تردي الخدمات الاجتماعية و الرشوة التي تنخر جميع المؤسسات التي
لها ارتباط مباشر بالمواطن البسيط.و لهذا فالشعارات التي رفعها شباب حركة 20 فبراير كانت تنادي بإسقاط الفساد لا بإسقاط النظام السياسي
برمته و هو الشعار الذي وحد كل مكونات شباب الحركة من مستقلين و منتمين لحركات
سياسية معارضة للنظام سواء يسارية أو إسلامية.فهذا الإجماع على إسقاط الفساد يعكس
طبيعة المطالب التي أصبحت تشغل المواطن اليوم دون أدلجة مغرقة في الحسابات
السياسية الضيقة .إن مطلب الثورات يلخص في المطالبة بالمواطنة الكاملة التي يكون
فيها المواطن في صلب العملية السياسية و أنه مصدرا لجميع القرارات . لقد سئم
المواطن من ثقافة الوصاية التي تمارسها الأنظمة الحاكمة باسم الدين أو المحافظة
على الوحدة الوطنية أو تحت ذريعة نظرية المؤامرة الخارجية.لقد برهن
المواطن العربي في هذا الحراك انه يوقع على شهادة ميلاده
جديدة تجعله يفتخر بنفسه بدل جلد الذات. و بفعل الثورة قطع هذا المواطن الجديد مع
ثقافة الخوف التي استطاع الحاكم أن يزرعها فيه عبر مؤسساته الإيديولوجية من مدرسة
و جامعة و مسجد إلخ .
- هشاشة
البنيات التحتية و غياب العدالة الاجتماعية:
إذا
كان الداعي الأول يمكن تلخيصه في الحق في العدالة السياسية بلغة جون رولز،فإن
الداعي الثاني يتلخص في مطلب الحق في العدالة الاجتماعية.يعد هذا المطلب الذي سيس
في الأدبيات الاشتراكية ثابتا من ثوابت الربيع العربي،لأن الفساد المستشري في هذه
المجتمعات قسم المجتمع إلى أسياد و خدم بل إلى فئة ثالثة تعيش على الهامش مثل
نموذج البوعزيزي- يكفي أن أشير أنه في المغرب نسبة البطالة المرتفعة ساهمت في ظهور
ظاهرة الكروسة بحيث أن عدد الكراريس يتجاوز 300000 بائع متجول.إن التهميش و
الإقصاء و غياب التعويض عن البطالة جعل فئة كبيرة من خريجي الجامعة يحسون بالحقد
على الوطن و حتى "الحريك" إلى أوروبا لم يعد حلما بفعل تداعيات
الأزمة، و في المقابل هناك المستفيد من الأزمة. إن هذه الوضعية الهشة
لطالما نادت التقرير الدولية بضرورة تجاوزها حتى لا تعرف هذه المجتمعات هزات
اجتماعية ، لكن الفساد المستشري بالمجتمع حال دون تحقيق مطلب العدالة
الاجتماعية.ففي نظري الشخصي أن ثورة البوعزيزي بتونس و تداعياتها في باقي الدول
العربية هي ليست ثورة الطبقة العاملة كما كانت تراهن عليها الاشتراكية بل هي ثورة "الطبقة غير
العاملة" التي سئمت من الانتظار.يمكن القول إذن إن الربيع
العربي هو رد فعل قوي ضد هشاشة Fragilität البنيات الاجتماعية و
الاقتصادية التي ساهمت في اتساع الهوة بين الأغنياء و الفقراء.لقد شكل الربيع
العربي في نظري انتصارا للحقوق الليبرالية في المجال السياسي و للقيم الاشتراكية
في المجال الاجتماعي. ولهذا لم نر رفع أي شعار مناهض لأمريكا أو الغرب. لقد فهم
المواطن العربي جزءا من اللعبة و استوعب أكذوبة نظرية المؤامرة
التي تروج لها الأنظمة الحاكمة كلما طالبت الشعوب بالتغيير . و أخرها تواطؤها مع
الغرب من اجل محاربة المعارضة الإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب . لكن صحوة الشعوب
جعلتها توجه معركتها هذه المرة مباشرة ضد الأنظمة دون استحضار لنظرية المؤامرة.
- أفاق
الحراك العربي
لقد
بينت التجربة التونسية التي ختمت مسلسل الثورة لحد الآن بانتخاب مجلس تأسيسي
بطريقة ديمقراطية و انتخاب المرزوقي المعارض السابق لبن
علي رئيسا للدولة أن أفاق الثورات العربية ستكون لصالح الشعوب التي ستختار حكامها
بيدها و تداعيات الثورة التونسية على باقي المنطقة في العالم العربي و شمال
إفريقيا لا يمكن نكرانها. فبفعل و سائل الاتصال الحديثة استطاعت الثورة التونسية
أن تؤثر في محيطها في ظرف أشهر عديدة و أنجزت ما لم تنجزه الثورة الفرنسية في 200 سنة. بل الأكثر من ذلك فتداعيات الثورة وصلت إلى الدول
الغربية التي كانت تشكل النموذج بالنسبة للعرب ، و لهذا يحق للإنسان
العربي و المغاربي الجديد أن يفتخر بهذا الانجاز التاريخي الذي ستكون له تأثيرات
سياسية و اقتصادية و اجتماعية بل و ربما جغرافية في المنطقة مستقبلا.
انطلاقا
من حديثي عن هذه الأفاق يمكن القول أن تأثير الثورة التونسية على المغرب كان سريعا
، إذ استجاب الشباب المغربي لنداء روح البوعزيزي وظهرت حركة العشرين من فبراير
التي حركت الساحة السياسية الجامدة. ففي الوقت الذي أدمج حزب الاتحاد
الاشتراكي للقوات الشعبية في الحكم في ما اصطلح عليه بالتناوب
الديمقراطي بزعامة اليوسفي أصبح الشارع السياسي خاليا من معارضة
قوية . و خفت مطلب الإصلاحات السياسية بحيث أن الملك ركز على بعض
الإصلاحات الاقتصادية وظل يحكم بالدستور الذي تركه والده و هو دستور احتكر بفضله
الملك جميع السلط . و بمجرد نزول شباب الحركة للشارع التقط الملك
الرسالة و شكل لجنة للإصلاح لدستوري و التي أسفرت نتائجها عن تنازل الملك عن سلطات
لم يكن أي زعيم سياسي له الجرأة حتى على المطالبة بها ما عدا بعض
التيارات اليسارية المعارضة للنظام من خارج البرلمان مثل اليسار الاشتراكي الموحد
و النهج الديمقراطي القاعدي و حركة العدل و الإحسان ذات التوجه
الإسلامي.و التجربة السياسية حاليا بالمغرب أوصلت حزب العدالة و التنمية الذي عين
الملك أمينه العام وزيرا أول لأنه احتل الرتبة الأولى بمقتضى الدستور الجديد ، وهو
التعيين الذي لم يكن ليحلم به لولا الحراك ببساطة لأنه لم
يكن يطرح الإصلاح الدستوري في أجندته السياسية.إن هذا الإصلاح الذي ساهمت
فيه" الثورة السلمية " لحركة عشرين فبراير التي لازالت
تطالب بملكية برلمانية يسود فيها الملك و لايحكم لم يكن ليحدث لولا الثورة
التونسية و تداعياتها غلى المنطقة برمتها. كما أن هذا الإصلاح الغير مكتمل جعل
المغرب دولة تصنف في مرتبة بين الديمقراطية و الدكتاتورية لأن الملك لازال يتحكم
بمقتضى الدستور الجديد في مجموعة من السلط التي تخول له تأويل الدستور حسب مصالحه
خاصة في غياب معارضة برلمانية قوية.
محمد
الأشهب
أستاذ
باحث بجامعة بن زهر-اكادير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق